عدوان صنعاء- حرج عربي، دعم فلسطيني، دروس التاريخ المنسية

المؤلف: كارم يحيى11.21.2025
عدوان صنعاء- حرج عربي، دعم فلسطيني، دروس التاريخ المنسية

كانت العلاقات بين نظام الرئيس السوداني الأسبق، الجنرال عمر البشير، الذي كان مدعومًا من الجبهة الإسلامية، والنظام الرسمي العربي تشوبها الكثير من الخلافات والتوترات.

وبشكل خاص، كانت العلاقة مع مصر، الجارة الكبرى للسودان، في أسوأ مراحلها عقب اتهام نظام البشير بالضلوع في محاولة اغتيال الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، في أديس أبابا عام 1996، بالإضافة إلى إيواء السودان للعناصر الإسلامية المتهمة بتنفيذ هذا الاعتداء.

ولكن، عندما أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، على شن هجوم جوي على مصنع الشفاء للأدوية في ضواحي الخرطوم في أغسطس 1998، تبدلت الأحوال رأساً على عقب، وأصبح السودان تحت قيادة البشير محطاً لتعاطف شعبي واسع النطاق في مختلف أرجاء العالم العربي.

أستذكر جيدًا تلك الفترة، حيث كنت أعمل في قسم الشؤون العربية بجريدة الأهرام المصرية. لقد كان خبر قصف العاصمة السودانية بمثابة صدمة مدوية. حينها، اتحدت أجيال مختلفة من الزملاء الصحفيين، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية، في التعبير عن غضبهم العارم واستنكارهم الشديد لهذا العدوان. كان من بين هؤلاء الزملاء من عايشوا الغزو الأمريكي لبيروت عام 1958، ومنهم من شهد قصف المدينة ذاتها عام 1983، بينما عاشت الأغلبية الغارات الأمريكية على العاصمة الليبية طرابلس وبني غازي عام 1986.

الأرشيفات تسجل كيف يثور العرب رغم الخلافات

وبوجه عام، كان للغضب الذي عم أرجاء العالم العربي أثر بالغ على النظام الرسمي العربي، الذي لم يكن بوسعه تجاهله أو السكوت عنه. هذا الغضب وثقته برقية لوكالة رويترز، والتي وصفته بأنه "يقترب من الغليان"، وهو ما نشرته جريدة الأهرام في صفحتها الأولى في 21 أغسطس 1998.

وفي استجابة عاجلة، أصدرت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في أقل من 24 ساعة بياناً شديد اللهجة تستنكر فيه القصف الأمريكي للسودان، معتبرة إياه "عملاً غير مبرر، وتعدياً سافراً على سيادة دولة عربية عضو في الجامعة، وانتهاكاً للمواثيق الدولية".

وبعد ساعات قليلة، صرح وزير الخارجية المصري آنذاك، عمرو موسى، بأنه "لا يمكن لأي دولة أن تحل محل مجلس الأمن، وأن موقف القاهرة واضح بضرورة أن تتم جميع الإجراءات ضد الإرهاب من خلال الشرعية الدولية، وتحت مظلة الأمم المتحدة".

وتحفظ الأرشيفات كذلك افتتاحية جريدة الأهرام التي نشرت بعد يومين من هذا العدوان، والتي حملت عنوان "المواجهة الجماعية للإرهاب هي الحل"، حيث انتقدت الافتتاحية بشدة تقمص الولايات المتحدة لدور الشرطي الذي يضرب هنا وهناك دون حسيب أو رقيب. وحذرت من أن "الانفراد الأمريكي بالعمل على هذا النحو يمكن أن يؤدي إلى تعاطف بعض القطاعات الجماهيرية مع الإرهابيين أنفسهم، وهذا أمر غير مرغوب فيه على الإطلاق".

قصف أمريكي لعاصمة عربية مرة أخرى

لا يدرك مدى الحساسية المتجاوزة للخلافات عندما تتعرض عاصمة عربية للهجوم إلا من كان ذا بصيرة نافذة، بصرف النظر عن وجود وساطة أم لا. هذه الحساسية تتفاقم عندما يكون المعتدي من أبناء المستعمرين القدامى: البريطانيين والفرنسيين وخلفائهم من الأمريكيين. ومن لا يضع في الحسبان عواقب هذا العدوان فهو كالأعمى.

صحيح أن اليمن، ممثلة بصنعاء الخاضعة لحكم الحوثيين، تعتبر اليوم خارج النظام الرسمي العربي وجامعة دوله. كما أنها تواجه اتهامات وحملات مستمرة منذ أكثر من عقد كامل بأنها مجرد "وكيل لإيران"، وبالمصطلح الإعلامي الغربي الشائع (proxy)، وأنها طرف في الصراع بين المحورين السني والشيعي في العالمين العربي والإسلامي. هذا الصراع، في اعتقادي ورأي الكثيرين، هو صراع مصطنع ومدمر يخدم مصالح الصهيونية وأعداء الشعوب.

وكل ما سبق يجعل وضع صنعاء، التي تتعرض اليوم لعدوان أمريكي وبريطاني، أضعف بكثير مما كان عليه وضع الخرطوم عندما تعرضت لعدوان أمريكي مماثل قبل نحو ربع قرن.

"مارقة منبوذة" وتتمتع بشعبية

ولكن، على الرغم من كل هذه الظروف والتحديات، جاءت مساهمة القوات اليمنية بجهد حربي في البحر الأحمر من أجل دعم غزة والشعب الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر 2023 لتمنح صنعاء شعبية واسعة بين الرأي العام العربي، تتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية السياسية.

وببساطة، وضعت هذه المساهمة المقدرة، والتي حظيت بتقدير الجماهير والنخب في معظم أنحاء العالم العربي، صنعاء، هذه "المارقة المنبوذة" وغير المعترف بها من قبل النظام الرسمي العربي، في قلب خريطة الصراع العربي الصهيوني اليوم.

وذلك على الرغم من أن اليمن، لاعتبارات الجغرافيا السياسية، لم تكن ضمن ما يسمى "دول المواجهة" أو "الطوق"، ولم يكن لها مشاركة ملحوظة في حروب الجيوش العربية مع إسرائيل منذ عام 1948.

وبالطبع، ليس لقواتها المسلحة تاريخ يضاهي تاريخ جيوش دول عربية بعيدة عن حدود فلسطين كالعراق، أو حتى الجزائر وتونس والمغرب في حرب 1973. ولكن لا يمكننا أن ننسى لليمن الجنوبي، ممثلة بعدن، مساهمتها القيمة بالتعاون مع البحرية المصرية في إغلاق باب المندب خلال هذه الحرب، وفرض حصار على العدو وقطع خطوط ملاحة بحريته وموانئه في البحر الأحمر وخليج العقبة.

باختصار، إن ما قامت به القوات اليمنية في صنعاء بعد السابع من أكتوبر في جنوب البحر الأحمر، وما حققته من نتائج ملموسة في حصار إسرائيل بحرياً وإطلاق الصواريخ باتجاهها، وضع هذا البلد على نحو غير مسبوق في قلب الصراع مع الاستعمار الصهيوني وحلفائه. كما ساهم، إلى حد ما، في تذويب الانقسامات الطائفية التي نمت وتفاقمت على مدى عقود في منطقتنا، وخاصة منذ الثورة الإيرانية عام 1979.

وباختصار أيضاً، فإن ما فعلته القوات اليمنية كمساهمة في نصرة غزة، وحتى يومنا هذا، سرعان ما وجد قبولاً واستحساناً لدى الشعوب العربية، التي زادت حرب الإبادة الصهيونية الأمريكية على الشعب الفلسطيني وصمود مقاومته الأسطوري من الفجوة بينها وبين أنظمتها في كل قطر، ومع مجمل النظام الرسمي العربي. ومقارنة المواقف والأقوال والأفعال بين هذا وذاك ماثلة الآن بقوة، وستظل، في اعتقادي، مؤثرة على مدى أجيال قادمة.

بل يمكننا القول، إن هذه المشاركة العسكرية اليمنية، ومعها الخروج الشعبي في مظاهرات صنعاء وغيرها من المدن هناك إلى جانب غزة والشعب الفلسطيني، سمحت للناس من المحيط إلى الخليج باكتشاف أن هؤلاء الملقبين "بالحوثيين"، الذين عرفوهم بصورة نمطية "كشيعة متطرفين عملاء لطهران"، لا يتحدثون الفارسية، ولا يعتمرون العمائم السوداء.

بل وأيضاً أصبحت قطاعات كبيرة من الرأي العام ترى ما يفعلونه، على الرغم مما يعانونه من ضعف وفقر وبؤس، "نخوة عربية" مفقودة عند غيرهم من الأثرياء أصحاب الميزانيات الضخمة والإمكانات الهائلة وأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً.

ولكنهم يشعرون بالحرج حتماً

إن العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن، بمشاركة حلفاء من خارج الإقليم ومن داخله، كما صرح الرئيس بايدن على الفور، يضع النظام العربي وركائزه وقيادته في السعودية في موقف بالغ الحرج والصعوبة، بل ويزيد الطين بلة، كما يقول المثل العربي. وهذا ليس فقط بسبب المزاج الشعبي والنخبوي في العالم العربي، وحساسيته المتأصلة تجاه قيام الأمريكيين والبريطانيين بضرب عاصمة عربية.

ولكن هذه المرة فإن الهدف المستهدف هو صنعاء، التي هي في ذروة حضورها في الصراع العربي الصهيوني، وفي لحظة مفصلية كبرى يواجهها الشعب الفلسطيني وقضيته، ومعه كل أحرار العرب والعالم.

وهناك قائمة طويلة من الأسباب الإضافية التي تزيد من هذا الحرج، ومن بينها أن العدوان على صنعاء ومدن يمنية أخرى جاء مباشرة بعد جولة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن واستقباله في العديد من العواصم العربية. وهو ما يطرح تساؤلات لا يقل أي منها في إحراجه عن الآخر، وهي:

  • هل أطلعهم على نوايا إدارته بشن هذه الضربات؟، أم أنه أخفى عن القادة والمسؤولين في هذه العواصم ما سيجري فور مغادرته المنطقة؟.
  • وما دلالة أن يشاغلهم بطمأنات عن عزم واشنطن العمل على منع اتساع الحرب (وبخاصة إلى لبنان)؟. وهذا، بينما لم تتخل إدارته عن المجاهرة بصراحة وصلف وإجرام بدعم استمرار الإبادة الصهيونية في غزة. ثم ها هي واشنطن تقوم بتوسيع الحرب هكذا إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، مع مخاطر ردود فعل قد تعيد حرب ناقلات النفط في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

وأيضاً من أسباب الحرج الشديد والخطير للنظام العربي الرسمي ومكوناته وقيادته هو أن العدوان الأمريكي البريطاني، مع إسراع واشنطن بالإعلان عن حلفاء من داخل الإقليم وخارجه، قد يفتح الباب لعودة النزاع المسلح داخل اليمن. ويقطع الطريق على تثبيت خطوط وقف إطلاق النار، والتهدئة، وجهود المصالحة مع الأطراف الإقليمية التي انخرطت في هذا النزاع منذ نحو تسعة أعوام.

وهو ما من شأنه أن يجر على اليمن والإقليم والعالم المزيد من أعباء الهجرة والنزوح والمجاعة والمعاناة لملايين اليمنيين، لم يتعافوا منها بعد.

وفوق كل هذا وذاك من أسباب الحرج، يلوح في الأفق سؤال ملح: لماذا اختارت الإدارة الأمريكية توقيت ضرب صنعاء والمدن اليمنية الأخرى في ذات اليوم الذي بدأت فيه محكمة العدل الدولية النظر في جرائم الإبادة الصهيونية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة؟. وهل هذا من أساليب "التغطية وسحب البساط الإعلامي"؟. أَوَ لا تعي واشنطن أن هذا التوقيت المتزامن يصب الزيت على نار المقارنة عند الرأي العام العربي بين مبادرة جنوب أفريقيا وحال دولهم الحليفة والصديقة وجامعتها؟

إلا الحماقة..

إن المعتدي الأمريكي لم يقدم لليوم إزاء اليمن وصنعاء دليلاً يماثل تبريره، ولو بالأكاذيب، لقصف مصنع أدوية "الشفاء". لم يزعم هذه المرة بأنه يعمل على إنتاج أسلحة كيماوية وغاز أعصاب، أو أن النظام السوداني متورط في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا قبلها، مع نظام "طالبان" في أفغانستان، حيث وجه إليها ضربات جوية في اليوم ذاته. فقط يظهر المعتدي الأمريكي الآن عارياً في وضع المدافع عن الصهيونية والحامي لإرهابها، بل وبمثابة وكيل عنها يخوض معاركها.

للتاريخ عبر ودروس

والأمر الأكثر إثارة للدهشة من تكرار الحماقات، حد الإدمان، هو أن الإدارة الأمريكية في عهد بوش الأب كانت قد اعترفت بخطأ تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني وقضيته وبعواقب استمرار هذا الظلم التاريخي.

وذلك بعدما لاحظت وأدركت، ومعها العالم أجمع، مدى التأييد الجماهيري لضرب الرئيس العراقي السابق صدام حسين مدن ومستعمرات إسرائيل بالصواريخ عن بعد، وهو في وضع المعتدي والمحتل لبلد عربي مجاور، ألا وهي الكويت.

وهكذا سارعت هذه الإدارة إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام قبل نهاية عام 1991، وبعد شهور معدودة من إخراج قوات صدام من الكويت. وذلك على الرغم من أن غزو الكويت كان قد أحدث شرخاً داخل النظام الرسمي وانقساماً في الرأي العام عربياً، وعلى خلاف أحوال العواصم: الخرطوم 1998 وصنعاء 2024، ومن قبلها طرابلس 1986، حين قصفها العدوان الأمريكي.

ولكن يبدو أن هذه الحماقات لا شفاء منها، وكما يقال: "إلا الحماقة أعيت من يداويها". وكأنهم لا يتعلمون، بعد أكثر من درس، أن الظلم والعدوان ومهاجمة العواصم وضربها من شأنها أن ترتد إلى نحر المعتدي حتى وإن كان في عقر داره.

 

 

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة